الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
المظلوم من الظالم واجب على فضله أو في حكمه، ولأن في إنكاره نسبة الله سبحانه إلى ضد العلم والقدرة. ثم إنه لا ريب في أن إنزال الكتاب والميزان لطف من الله على خلقه فلذلك قال {الله لطيف بعباده} عمم البر ثم خصص بقوله {يرزق من يشاء} يعني الزائد على مقدار الضرورة، فلكم من إنسان فاق أقرانه في المال أو الجاه أو الأولاد أو في العلم أو في سائر أسباب المزية إلا أن أحداً منهم لا يخلو من بره الذي يتعيش به كقوله {أعطى كل شيء خلقه ثم هدى} [طه: 50] وقيل: معنى لطيف يرزقهم من حيث لا يعلمون، أو يلطف بهم فلا يعاجلهم بالعقوبة ليتوبوا.وقد مر معناه في الأنعام بوجه آخر في قوله {وهو اللطيف الخبير} [الآية: 103] وأما قوله {القوي العزيز} ففيه إشارة إلى أن لطفه مقرون بقهره. وحين ذكر أنه يرزق من يشاء الزائد على مقدار كفايته وكان فيه كسر قلوب أرباب الضنك والضيق جبر كسرهم بقوله {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه} سماه حرثاً تشبيهاً للعامل الطالب لثواب الآخرة أضعافاً مضاعفة بالزارع الذي يلقي البذر في الأرض طلباً للزيادة والنماء، ومن فضائل حرث الآخرة أن طالبها قد يحصل له الدنيا بالتبعية ويرى ثواب عمله أضعافاً مضاعفة، وطالب الدنيا لا تحصل له المطالب بأسرها ولهذا قال {نؤته منها} أي بعض ذلك {وما له في الآخرة من نصيب} قط وفي زيادة لفظ الحرث فائدة أخرى وهي أن يعلم أن شيئاً من القسمين لا يحصل إلا بتحمل المتاعب والمشاق. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من أصبح وهمه الدنيا شتت الله عليه همه وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن أصبح وهمه الآخرة جمع الله همه وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة» هذا لفظه أو لفظ هذا معناه. وعن قتادة إن الله يعطي الدنيا على نية الآخرة ولا يعطي الآخرة على نية الدنيا. وفي ظاهر اللفظ دلالة على أن من صلى لطلب الثواب أو لدفع العقاب فإنه تصح صلاته لأنه صلى لأجل ما يتعلق بالآخرة. قال بعض أصحاب الشافعي: إذا توضأ بغير نية لم يصح لأن هذا الإنسان غفل عن الآخرة وعن ذكر الله، والخروج عن عهدة الصلاة من باب منافع الآخرة فلا يحصل بالوضوء العاري عن النية، وحيث بين القانون الأعظم والقسطاس الأقوم في أعمال الدارين نبه على أحوال الضلال بقوله {أم لهم شركاء} وهي المنقطعة عند بعضهم. وقال آخرون: هي المعادلة لألف الاستفهام تقديره أفيقبلون ما شرع الله لهم من الدين أم لهم آلهة. {شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله} أي لم يأمرهم به أو لم يعلمه كقوله {أتنبؤن الله بما لا يعلم} [يونس: 18] والأذن بالفتح العلم بالمسموعات وتحقيقه شرعوا ما ليس بشريعة إذ لو كان شريعة لعلمها الله {ولولا كلمة الفصل} أي القضاء السابق بتأخير الجزاء {لقضي بينهم} والضمير للمؤمنين والكافرين أو المشركين والشركاء {ترى الظالمين} في القيامة {مشفقين} خائفين {مما كسبوا} من الجرائم {وهو} أي وبال ذلك {واقع بهم} واصل إليهم لا محالة {والذين آمنوا وعلموا الصالحات في روضات الجنات} أي منتزهاتها. قالت الأشاعرة: فيه دليل على أن غيرها من الأماكن في الجنة لغير المذكورين وغيرهم ليس إلا بالذي آمن ولم يعمل صالحاً وهو الفاسق. ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون إضافة الروضات إلى الجنات من إضافة العام إلى الخاص فيكون الجنات كلها روضات.ولكن الروضات قد لا تكون في الجنة لثبوتها في الدنيا. والفضل الكبير قد تقدم في فاطر. {ذلك} المذكور أو الثواب أو التبشير هو {الذي يبشر الله} به {عباده} ثم حذف الجار، ثم الراجع إلى الموصول، ثم أمر رسوله بأن يقول {لا أسألكم عليه} على هذا التبليغ {أجراً إلا المودة} الكائنة {في القربى} جعلوا مكاناً للمودة ومقراً لها ولهذا لم يقل مودة القربى أو المودة للقربى وهي مصدر بمعنى القرابة أي في أهل القربى وفي حقهم. فإن قيل: استثناء المودة من الأجر دليل على أنه طلب الأجر على تبليغ الوحي وذلك غير جائز كما جاء في قصص سائر الأنبياء ولاسيما في الشعراء. وقد جاء في حق نبينا صلى الله عليه وسلم أيضاً {قل ما سألتكم من أجر فهو لكم} [سبأ: 47] {وقل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين} [ص: 86] والمعقول منه أن التبليغ واجب عليه وطلب الأجر على أداء الواجب لا يليق بالمروءة. وأيضاً أنه يوجب التهمة ونقصان الحشمة. قلنا: إن من جعل الآية منسوخة باللتين لا استثناء فيهما فلا إشكال عليه، وأما الآخرون فمنهم من قال: الاستثناء متصل ولكنه من قبيل تأكيد المدح بما يشبه الذم كقوله:
والمعنى لا أطلب منكم أجراً، إلا هذا وهو في الحقيقة ليس أجراً لأن حصول المودة بين المسلمين أمر واجب ولاسيما في حق الأقارب كما قال عز من قائل {والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل} [الرعد: 21] ومنهم من قال: الاستثناء منقطع أي لا أسألكم عليه أجراً ألبتة، ولكن أذكركم المودة في القربى، وفي تفسير {المودة في القربى} أربعة أقوال: الأول قال الشعبي: أكثر الناس علينا في هذه الآية فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عن ذلك فأجاب بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان واسطة النسب في قريش ليس بطن من بطونهم إلا وقد كان بينهم وبينه قرابة فقال الله: قل لا أسألكم على ما أدعوكم إليه أجراً إلا أن تودوني لقرابتي منكم يعني أنكم قومي وأحق من أجابني وأطاعني فإذ قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق القربى ولا تؤذونني ولا تهيجوا عليّ. القول الثاني: روى الكعبي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت تنوبه نوائب وحقوق وليس في يده سعة فقال الأنصار: إن هذا الرجل قد هداكم الله على يده وهو ابن أختكم وجاركم في بلدكم، فاجمعوا له طائفة من أموالكم ففعلوا. ثم أتوه فرده عليهم ونزلت الآية بحثهم على مودة أقاربهم وصلة أرحامهم.القول الثالث: عن الحسن: إلا أن توددوا إلى الله وتتقربوا إليه بالطاعة والعمل الصالح. الرابع: عن سعيد بن جبير: لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم لقرابتك؟ فقال: علي وفاطمة وابناهما. ولا ريب أن هذا فخر عظيم وشرف تام، ويؤيده ما روي أن علياً رضي الله عنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حسد الناس فيه فقال: أما ترضى أن تكون رابع أربعة أول من يدخل الجنة أنا وأنت والحسن والحسين وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا وذرياتنا خلف أزواجنا وعنه صلى الله عليه وسلم: «حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي ومن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطلب ولم يجازه عليها فأنا أجازيه عليها غداً إذا لقيني يوم القيامة» وكان يقول «فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها» وثبت بالنقل المتواتر أنه كان يحب علياً والحسن والحسين، وإذا كان ذلك وجب علينا محبتهم لقوله {فاتبعوه} [الأنعام: 153] وكفى شرفاً لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفخراً ختم التشهد بذكرهم والصلاة عليهم في كل صلاة. قال بعض المذكرين: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركب فيها نجا ومن تخلف عنها غرق» وعنه صلى الله عليه وسلم: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» فنحن نركب سفينة حب آل محمد صلى الله عليه وسلم ونضع أبصارنا على الكواكب النيرة أعني آثار الصحابة لنتخلص من بحر التكليف وظلمة الجهالة ومن أمواج الشبه والضلالة. ثم أكد إيصال الثواب على المودة بقوله {ومن يقترف حسنة} أي يكتسب طاعة، قال بعض أهل اللغة: الاقتراف مستعمل في الشر فاستعاره هاهنا للخير. عن السدي أنها المودة في آل رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت في أبي بكر الصديق ومودته فيهم، والظاهر العموم في كل حسنة ولا شك أن هذه مرادة قصداً أولياً لذكرها عقيبها. ومعنى زيادة حسنها تضعيف ثوابها {إن الله غفور} لمن أذنب {شكور} لمن أطاع الله والله أعلم. اهـ. .فوائد لغوية وإعرابية: قال السمين:قوله: {كَذَلِكَ يوحي}: القُراء على {يُوْحي} بالياء مِنْ أسفلَ مبنياً للفاعلِ، وهو اللَّهُ تعالى. و{العزيزُ الحكيمُ} نعتان. والكافُ منصوبةُ المحلِّ: إمَّا نعتاً لمصدرٍ، أو حالاً مِنْ ضميرِه أي: يوحي إيحاءً مثلَ ذلك الإِيحاءِ. وقرأ ابنُ كثير- وتُروى عن أبي عمروٍ – {يُوْحَى} بفتحِ الحاءِ مبنياً للمفعول. وفي القائمِ مَقامَ الفاعلِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: ضميرٌ مستترٌ يعود على {كذلك} لأنه مبتدأٌ، والتقدير: مثلُ ذلك الإِيحاءِ يُوْحَى هو إليك. فمثلُ ذلك مبتدأٌ، ويُوْحى هو إليك خبرُه. الثاني: أنَّ القائمَ مقامَ الفاعلِ {إليك}، والكافُ منصوبُ المحلِّ على الوجهَيْن المتقدِّمَيْن. الثالث: أنَّ القائمَ مَقامَه الجملةُ مِنْ قولِه: {اللَّهُ العزيزُ} أي: يُوْحَى إليك هذا اللفظُ. وأصولُ البَصْريين لا تساعِدُ عليه؛ لأنَّ الجملةَ لا تكونُ فاعلةً ولا قائمةً مقامَه.وقرأ أبو حيوةَ والأعمشُ وأبانٌ {نُوْحي} بالنون، وهي موافقةٌ للعامَّةِ. ويُحتمل أَنْ تكونَ الجملةُ مِنْ قولِه: {اللَّهُ العزيزُ} منصوبةَ المحلِّ مفعولةً ب {نُوْحي} أي: نُوحي إليك هذا اللفظَ. إلاَّ أنَّ فيه حكايةَ الجملِ بغيرِ القولِ الصريحِ. و{نُوْحي} على اختلافِ قراءاتِه يجوزُ أَنْ يكونَ على بابه من الحالِ أو الاستقبالِ، فيتعلَّقَ قولُه: {وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ} بمحذوفٍ لتعذُّرِ ذلك، تقديرُه: وأوحَى إلى الذين، وأَنْ يكونَ بمعنى الماضي. وجيْءَ به على صورةِ المضارعِ لغَرَضٍ وهو تصويرُ الحالِ.قوله: {اللَّهُ العزيزُ} يجوزُ أَنْ يرتَفِعَ بالفاعليةِ في قراءةِ العامَّةِ، وأَنْ يرتفعَ بفعلٍ مضمرٍ في قراءةِ ابنِ كثير، كأنه قيل: مَنْ يُوْحيه؟ فقيل: اللَّه، ك {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال} [النور: 36]، وقوله:وقد مرَّ، وأَنْ يرتفعَ بالابتداءِ، وما بعدَه خبرُه، والجملةُ قائمةٌ مَقامَ الفاعلِ على ما مَرَّ، وأَنْ يكون {العزيزُ الحكيمُ} خبَريْن أو نعتَيْن. والجملةُ مِنْ قولِه: {لَهُ مَا فِي السماوات} خبرٌ أولُ أو ثانٍ على حَسَبِ ما تقدَّم في {العزيزُ الحكيمُ}.وجوَّز أبو البقاءِ أَنْ يكونَ {العزيز} مبتدأً و{الحكيمُ} خبرَه، أو نعتَه، و{لَهُ مَا فِي السماوات} خبرَه. وفيه نظرٌ؛ إذ الظاهرُ تَبَعيَّتُهما للجلالة. وأنت إذا قلتَ: جاء زيدٌ العاقلُ الفاضلُ لا تجعلُ العاقل مرفوعاً على الابتداء.{تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)}.قوله: {تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ}: قد مَرَّ في مريم الخلافُ والكلامُ فيه مُشْبَعاً. إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ زاد هنا: وروِيَ عن يونسَ عن أبي عمروٍ قراءةٌ غريبةٌ {تَتَفَطَّرْنَ} بتاءَيْن مع النونِ، ونظيرُهما حرفٌ نادرٌ رُوي في نوادر ابنِ الأعرابي: الإِبلُ تَتَشَمَّمْن. قال الشيخ: والظاهرُ أنَّ هذا وهمٌ منه؛ لأنَّ ابن خالويه قال في شاذِّ القراءاتِ ما نَصُّه: تَنْفَطِرْنَ بالتاء والنون، يونس عن أبي عمروٍ قال ابنُ خالَوَيْه: وهذا حرفٌ نادرٌ لأنَّ العربَ لا تجمعُ بين علامَتَيْ التأنيثِ. لا يقال: النساءُ تَقُمْنَ، ولكن يَقُمْنَ، {والوالدات يُرْضِعْنَ} [البقرة: 233] ولا يقال: تُرْضَعْنَ. وقد كان أبو عُمَرَ الزاهدُ رَوَى في نوادرِ ابن الأعرابي: الإِبلُ تَتشمَّمْن فأنكَرْنَاه، فقد قَوَّاه الآن هذا. قال الشيخ: فإنْ كانَتْ نُسَخُ الزمخشريِّ متفقةً على قولِه: بتاءَيْن مع النون فهو وهمٌ، وإنْ كان في بعضها بتاءٍ مع النونِ كان موافقاً لقولِ ابن خالَوَيْهِ، وكان بتاءَيْن تحريفاً من النَّساخ. وكذلك كَتْبُهُم تَتَفَطَّرْن وتَتَشَمَّمْنَ بتاءَيْن. انتهى.قلت: كيف يَسْتقيم أَنْ يكونَ كتْبُهم تَتَشَمَّمْن بتاءَيْن وهماً؟ وذلك لأنَّ ابنَ خالَوَيْهِ أورَدَه في مَعْرِضِ النُّدْرَةِ والإِنكارِ، حتى تَقَوَّى عنده بهذه القراءةِ، وإنما يكون نادراً مُنْكَراً بتاءَيْن فإنه حينئذٍ يكونُ مضارِعاً مُسْنَداً لضمير الإِبلِ، فكان مِنْ حَقِّه أَنْ يكونَ حرفُ مضارَعَتِه ياءً منقوطةً مِنْ أسفلَ نحو: النساءُ يَقُمْنَ فكان يَنْبغي أَنْ يقال: الإِبلُ يَتَشَمَّمْنَ بالياء مِنْ تحتُ ثم بالتاءِ مِنْ فوقُ، فلمَّا جاء بتاءَيْن كلاهما مِنْ فوقُ ظهرَ ندورُه وإنكارُه. ولو كان على ما قال الشيخُ: إنَّ كَتْبَهم بتاءَيْن وهمٌ، بل كان ينبغي كَتْبُه بتاءٍ واحدةٍ لَما كان فيه شذوذٌ/ ولا إنكارٌ؛ لأنه نظيرُ النسوةُ قد خَرَجْنَ فإنَّه ماضٍ مسندٌ لضميرِ الإِناثِ، وكذا لو كُتِب بياءٍ مِنْ تحتُ وتاءٍ مِنْ فوقُ لم يكنْ فيه شذوذٌ ولا إنكارٌ، وإنما يجيْءُ الشذوذُ والإِنكارُ إذا كان بتاءَيْنِ منقوطتَيْن مِنْ فوقُ، ثم إنَّه سواءٌ قُرِئَ {تَتَفَطَّرْنَ} بتاءَيْن أو بتاءٍ ونونٍ فإنه نادرٌ كما ذَكَرَ ابنُ خالوَيْه، وهذه القراءةُ لم يُقْرَأ بها في نظيرتِها في سورةِ مريم.قوله: {مِنْ فَوْقِهِنَّ} في هذا الضميرِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه عائدٌ على السماوات أي: يَبْتَدِئُ انفطارُهُنَّ مِنْ هذه الجهةِ ف {مِنْ} لابتداءِ الغايةِ متعلقةً بما قبلَها. الثاني: أنه عائد على الأرضين لتقدُّم ذِكْرِ الأرضِ قبلَ ذلك. الثالث: أنه يعودُ على فِرَقِ الكفَّارِ والجماعاتِ المُلْحِدين، قاله الأخفش الصغير، وأنكره مكي، وقال: لا يجوزُ ذلك في الذكور مِنْ بني آدم. وهذا لا يُلْزِمُ الأخفشَ فإنَّه قال: على الفِرَقِ والجماعات، فراعى ذلك المعنى.{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7)}.قوله: {قُرْآناً عَرَبِيّاً}: فيه وجهان، أظهرُهما: أنه مفعولُ {أَوْحَيْنا}، والكافُ للمصدرِ نعتاً أو حالاً. والثاني: أنَّه حالٌ من الكافِ، والكافُ هي المفعولُ ل {أَوْحَيْنا} أي: أَوْحَيْنا مثلَ ذلك الإِيحاءِ، وهو قرآنٌ عربيٌّ. وإليه نحا الزمخشريُّ، وكونُ الكافِ اسماً في النَّثْر مذهبُ الأخفش.قوله: {ومَنْ حَوْلها} عطفٌ على {أهل} المقدرِ قبل {أمَّ القرى} أي: لِتُنْذِرَ أهلَ أمِّ القرى ومَنْ حَوْلَها. والمفعولُ الثاني محذوفٌ أي: العذابَ. وقُرِئَ {لِيُنْذِرَ} بالياءِ مِنْ تحتُ أي: القرآن. وقولُه: {وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع} هو المفعولُ الثاني. والأولُ محذوفٌ أي: وتُنْذِرَ الناسَ عذابَ يومِ الجمع، فحذفَ المفعولَ الأولَ من الإِنذار الثاني، كما حَذَفَ المفعولَ الثاني مِنْ الإِنذار الأولِ.قوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} إخبارٌ فهو مستأنَفٌ. ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ {يومَ الجمع}، وجعلَه الزمخشريُّ اعتراضاً وهو غيرُ ظاهرٍ صناعةً؛ إذ لم يَقَعْ بين متلازِمَيْنِ.قوله: {فَرِيقٌ} العامَّةُ على رَفْعِه بأحدِ وجهَيْنِ: إمَّا الابتداءِ، وخبرُه الجارُّ بعدَه. وساغ هذا في النكرةِ لأنَّه مَقامُ تفصيلٍ كقولِه: ويجوزُ أَنْ يكونَ الخبرُ مقدراً، تقديرُه: منهم فريقٌ. وساغ الابتداءُ بالنكرةِ لشيْئَيْنِ: تقديمِ خبرِها جارًّا ومجروراً، ووَصْفِها بالجارِّ بعدَها. والثاني: أنه خبرُ ابتداءٍ مضمرٍ أي: هم، أي: المجموعون دَلَّ على ذلك قولُه: {يومَ الجَمْعِ}.وقرأ زيدُ بن علي {فريقاً وفريقاً} نصباً على الحال مِنْ جملةٍ محذوفةٍ أي: افترقوا أي: المجموعون. وقال مكي: وأجاز الكسائيُّ والفراءُ النصبَ في الكلام في {فريقاً} على معنى: تُنْذِرُ فريقاً في الجنة وفريقاً في السَّعير يومَ الجمع. قلت: قد تقدَّم أنَّ زيدَ بن علي قرأ بذلك، فكأنَّه لم يَطَّلِعْ على أنها قراءةٌ؛ بل ظاهرُ نَقْلِه عن هذَيْن الإِمامَيْن أنهما لَم يَطَّلعا عليها، وجَعَل {فريقاً} مفعولاً أولَ ل {تُنْذِرَ} و{يومَ الجَمْعِ} مفعولاً ثانياً. وفي ظاهرِه إشكالٌ: وهو أنَّ الإِنذارَ لا يقعُ للفريقَيْنِ، وهما في الجنة، وفي السَّعير، إنَّما يكونُ الإِنذارُ قبل استقرارِهما فيهما. ويمكنُ أَنْ يُجابَ عنه: بأنَّ المرادَ مَنْ هو مِنْ أهلِ الجنة ومِنْ أهلِ السَّعير، وإنْ لم يكنْ حاصلاً فيهما وقتَ الإِنذارِ، و{في الجنة} صفةٌ ل {فَريقاً} أو متعلِّقٌ بذلك المحذوفِ.{أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)}.قوله: {أَمِ اتخذوا}: هذه {أم} المنقطعةُ تتقَدَّر ب بل التي للانتقالِ وبهمزةِ الإِنكارِ، أو بالهمزةِ فقط، أو ب بل فقط.قوله: {فالله هُوَ الولي}. الفاءُ عاطفةٌ ما بعدَها على ما قبلَها. وجعلها الزمخشريُّ جوابَ شرطٍ مقدرٍ. كأنَّه قيل: إنْ أرادوا أولياءَ بحقٍ فاللَّهُ هو الوليُّ.{فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11)}.قوله: {فَاطِرُ}: العامَّةُ على رفعِه خبراً ل {ذلكم} أو نعتاً ل {ربِّي} على تَمَحُّضِ إضافتِه. و{عليه توكَّلْتُ} معترضٌ على هذا، أو مبتدأ، وخبرُه {جَعَلَ لكم} أو خبرُ مبتدأ مضمرٍ أي: هو. وزيد بن علي: {فاطرِ} بالجرِّ نعتاً للجلالةِ في قوله: {إلى اللَّهِ}، وما بينهما اعتراضٌ أو بدلاً مِن الهاء في {عليه} أو {إليه}.وقال مكيٌّ: وأجاز الكسائيُّ النصبَ على النداء. وقال غيرُه: على المدح. ويجوزُ في الكلامِ الخفضُ على البدلِ من الهاءِ في {عليه}. قلت: قد قرأ بالخفضِ زيدُ بن علي. وأمَّا نصبُه فلم أحفَظْه قراءةً.قوله: {يَذْرَؤُكُمْ فيه} يجوزُ أَنْ تكونَ في على بابِها. والمعنى: يُكَثِّرُكُمْ في هذا التدبير، وهو أنْ جَعَلَ للناسِ والأنعام أزواجاً حتى كان بين ذُكورِهم وإناثِهم التوالُدُ. والضميرُ في {يَذرَؤُكم} للمخاطبين والأنعامِ. وغَلَّب العُقلاءَ على غيرِهم الغُيَّبِ. قال الزمخشري: وهي من الأحكامِ ذاتِ العلَّتَيْن. قال الشيخ: وهو اصطلاحٌ غريبٌ، ويعني: أنَّ الخطابَ يُغَلَّبُ على الغَيْبة إذا اجتمعا. ثم قال الزمخشريُّ: فإنْ قلت: ما معنى يَذْرَؤُكم في هذا التدبيرِ؟ وهلا قيل يَذْرَؤُكم به. قلت: جُعِل هذا التدبيرُ كالمَنْبَع والمَعدِنِ للبَثِّ والتكثيرِ. ألا تَراك تقول: للحَيَوان في خلق الأزواج تكثير، كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ} [البقرة: 179]. والثاني: أنها للسببية كالباء أي: يُكَثِّرُكم بسبِبه. والضميرُ يعودُ للجَعْلِ أو للمخلوقِ.قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} في هذه الآيةِ أوجهٌ، أحدُها- وهو المشهورُ عند المُعْرِبين- أنَّ الكافَ زائدةٌ في خبرِ ليس، و{شيءٌ} اسمُها. والتقدير: ليس شيءٌ مثلَه. قالوا: ولولا ادِّعاءُ زيادتِها لَلَزِمَ أَنْ يكونَ له مِثْلٌ. وهو مُحالٌ؛ إذ يَصيرُ التقديرُ على أصالةِ الكاف: ليس مثلَ مثلِه شيءٌ، فنفى المماثلةَ عن مثلِه، فثبَتَ أنَّ له مثْلاً، لا مثلَ لذلك المَثَلِ، وهذا مُحالٌ تَعالى اللَّه عن ذلك.
|